باز
أحمد الجارحي

أحمد الجارحي

أحمد الجارحي

إن المسلمين أمة واحدة ،خرجت من بين دفتي كتاب واحد ،وما أوطانها وشعوبها وقبائلها وقوميتها إلا آيات وسور في هذا...

3.2k
المتابعون
31
يتابع

الشيخ الزنداني سيرة ومسيرة.(2) الزنداني واحد من الشخصيات الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين التي حاولت إعادة تغيير مجرى النهر، وكانت غايته القصوى عودة الإسلام لمركزيته في الأرض. ولذا ستضل أصداؤه تتردد بين مادحيه وناقديه، فالشخصيات التي أثارت النقع، وصاغت سطور التاريخ في حياتها تبقى أفكارها ومواقفها تتوقد يقظة بعد مماتها. الإيمان المصطلح لم يمل الشيخ من ترداده وشرح مفرداته، المصطلح الذي خيم على أفكاره، كان الإيمان هدفا ساميا ناضل الشيخ الزنداني من أجل سيادته، وانفق حياته كلها في سبيل صبغِ الحياةِ بمعانيه. كتب الشيخ كتابًا في الإيمان، حاضر ودرس عن الإيمان، بنى جامعة الإيمان، الإيمان هو (الباسورد) الذي يفتح لك شخصية الشيخ، ويطلعك على سيرته الذاتية، من أراد أن يقرأ الشيخ في سياقه فليقرأ الفكرة القلقة التي كانت تتوقد في ذهنه صباح مساء.للفكرة تلبسٌ بأصحابها حتى غدت بهم وغدوا يعرفون بها فإذا ذكر الطبري ذكر التفسير، وإذا ذكر ابن خلدون ذكر التاريخ، وإذا ذكر البخاري ذكر الحديث، وإذا ذكر الزنداني ذكر الإعجاز العلمي.كان الشيخ نشيطا يجد في زراعة الجيل الإسلامي على تربة الخرائط العالمية دون رحيل، فما غاب يوما عن الحضور، ولا نسي في رحلاته البذور.الشيخ الزنداني لا يمثل فردًا في ركاب العلماء، بل هو مرحلة كاملة من تاريخ الأمة اليمنية المجاهدة بالعلم وغرس المعرفة، هو سلسلة ممتدة يتصل إسنادها بابن الوزير والصنعاني والمَقْبَلِي والشوكاني والزبيري، وبقية أفراد مدرسة الاجتهاد اليماني الحر التي أنجبت «العواصم من القواصم» و «العلم الشامخ» و «السيل الجرار» وكلها عناوينُ ثورية، تعبر عن اليقظة الفكرية الوثابة لعلماء اليمن.الشيخ الزنداني معمار آخر في مدرسة الإصلاح اليماني الحر، ليس مجرد عالم شرعي ينشر مواد العلم، بقدر ما هو مدرسة علمية تطبيقية تراحبت فيها قيم العلم، وسُطرت فيها صفحات من جهاد العلماء، وانداحت في رحابها مواقف الربانيين. فجمعت شخصيته بين العلم الشرعي والموقف الشرعي، وقدم في مسيرته الإحيائية (سلامة المنهج) على (منهج السلامة). فكان أحد أعضاء حركة الإحياء السني في القطر اليماني، فأسس أبرز محاضن العلم، وأنشأ كيانا جامعا للعلماء، وقاد الحوارات الاقتصادية والسياسية، وكان زئيره الخطابي مُعثِّرا لحركات الإفساد المجتمعي التي كانت تتوغل بمشاريعها في صلب المجتمع اليمني، فكانت تحسب لوثبته ألف حساب. كانت أسراب الدعاية التي تصدرها المطابخ الإعلامية تزداد فتكا بالشيخ وتنال من جهده ومجهوده، وتحاول إحكام قيوده، فما لانت عريكته ولا تراجعت وثبته.وها هو الشيخ يموت في أرض الفاتحين محتفظا بإيمانه غير مساوم به، ها هو يموت مهاجرا على أمل العودة، وحسبنا أن أجره قد وقع على الله (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله). رحم الله الشيخ الزنداني وأجزل في العالمين مثوبته.وعزائي لأهله وذويه ومحبيه.

الشيخ الزنداني سيرة ومسيرة.عبد المجيد الزنداني كيف يُقال في ترجمته؟ أما السيرة فسجل علمي يتجدد، وأما المسيرة فحراك جهادي يتوقد.ضرب الشيخ بسهم في كل اتجاه، قدم حضورًا فاعلا في جميع محطاته الحياتية.الشيخ الزنداني صوت جهوري مرَّ على هذا الكوكب، لا يزال زئير الإعجاز العلمي الذي قاده تتردد أصداؤه في أرقى جامعات العالم. إذ أنفق الرجل كمية كبيرة من سنوات عمره يحفر في بنود الإعجاز العملي، فلئن تزعم الزمخشري في القرن الخامس الهجري مادة الإعجاز البلاغي القرآني فكان رائده، فإن الشيخ الزنداني تزعم في القرن الخامس عشر الهجري مادة الأعجاز العلمي القرآني فكان قائده، كانت حفرياته العلمية تجوب مراكز البحث العلمي العالمي، تستنطق رجالات العلم، وتحاور شخصياته، فيطأطئون رؤوسهم اعترافا بسبق القرآن على كل منجزات معارفهم، فشرق بمبتكراته الإلحاد وغص به الملاحدة.للشيخ الزنداني مسيرة أخرى في مواجهة طوفان الزحف الأحمر الممتدة دماؤه الاشتراكية على أجزاء من خارطة الأرض، إذ كان نضاله الوثاب يصدع بنيان الشيوعية، ويزلزل طقوسها، ولو كان للمساهمين في إسقاط المعسكر الشيوعي سجلًا يحصي أسماءهم لكان الشيخ الزنداني على تلك القوائم.كان الشيخ يتصدر قضايا الأمة الكبار، فلم يكن حفره في الإعجاز العلمي يعزله عنها، فله صولات داخلية وجولات خارجية، معركة الدستور في اليمن، قضية فلسطين، الجهاد الأفغاني، الوحدة اليمنية، حرب الانفصال، زحف العولمة، وتوطين العلمانية، عاصفة الحزم، سجل مليء بالخطابات والتحركات والمراسلات، والحوارات، وقيادة الحركة العلمية في اليمن، يستنهض العلماء لدورهم في نصرة قضايا الأمة والمشاركة الفاعلة في كبار قضاياها الوجودية.قاد الشيخ هيئة العلماء اليمانية وأنشأ جامعة الإيمان لصنع أكفائهم وتطوير كفاءاتهم، أراد أن يخرج العلماء من قماقم الصراع الفروعي الذي طورته المذاهب الفقهية فأيقظت به جذوة الصراع المحتدم بينهم، إلى صلب عناوينهم الرئيسة ومواقعهم الفاعلة، أراد إخراج العلماء من الهامش إلى متن الحياة.كانت صرخة الشيخ الزنداني امتدادا لصرخة أخيه تاج الدين السبكي حين عاتب زملاءه العلماء من أبناء عصره في القرن الثامن الهجري انصرافهم عن كبريات القضايا، واستهلاك جل أوقاتهم في حوارات لا يناسبها الظرف الذي يعيشون، ولا ترتقي لمستوى الأولويات التي يجب أن يمارسوها.

أدق حراسة علميّة في التاريخ (3)هذه الصنعة الحضارية الإسلامية علّمت الدنيا طرق تحقيق المخطوطات، وفحصها، ونخل خطلها. ويؤكد الدكتور شوقي ضيف أن المتقدمين كانوا يعرفون جيدا القواعد العلمية في إخراج الكتب، من حيث رموز المخطوطات، واختيار أوثق النسخ لاستخلاص أدق صورها النهائية للنص كما صنع اليونيني في القرن السابع بصحيح البخاري.دوَّن اليونيني كل رموز الضبط وإشارات النُسَخ، وحل الألفاظ اللغوية، وكشف عن وجوه الاستعمال، وأسند الأعمال اللغوية إلى رائد الدرس النحوي محمد بن مالك الجياني، واستدعى ما رصده القاضي عياض (ت:544) في مدونته المعجمية البديعة «مشارق الأنوار»، وغير ذلك من تقنيات الضبط والتصحيح.اهتبل العلماء النسخة اليونينية في مطلع القرن الثامن، وقاموا بنسخها نسخًا نفيسة طبق الأصل انتشرت في أرجاء العالم الإسلامي، ومنها صدرت طبعات البخاري.ذكر العلامة القسطلاني في القرن العاشر أن النسخة الأصلية صارت وقفًا على خزانة مدرسة (آقبغا آص) في القاهرة، إلا أن مصيرها لم يعرف إلى الآن، وبقيت فروعها المطابقة تغذي الدرس الحديثي بجودتها وإتقانها، كفرع العلامة النويري (ت:733)، ونسخة الغزولي(ت:777)، ونسخة ابن السراج (ت:782)، ونسخة البصري (ت:1134).ولم يتمكن المعاصرون -بحسب المحدث أحمد شاكر- من تحديد مكان وجود النسخة اليونينية الأصلية التي ضبطها اليونيني نفسه، إلا أن شيخ الجامع الأزهر حسونة النواوي(ت:1343) اعترف أن النسخة السلطانية استندت عليها.مطلع القرن الرابع عشر أصدر السلطان عبد الحميد-تحديدًا عام 1311هـ- مرسومه السلطاني بطباعة (الجامع الصحيح) اعتمادًا على النسخة اليونينية البديعة، فتولت مشيخة الجامع الأزهر الأعمال التنفيذية للمرسوم السلطاني، وتولى الشيخ حسونة النواوي(ت:1343) رئاسة اللجنة، وأعد تقريرًا سنة 1313هـ أشار فيه إلى أن لجان التدقيق اعتمدت النسخة اليونينية الأصلية، وأنها محفوظة في الخزانة الملوكية بالآستانة العلية بإسطنبول، وتفاصيل أخرى.صدرت الطبعة السلطانية الفاخرة، فاستمد منها العالم الإسلامي أغلب طبعات الكتاب إلى يومنا، وكانت في غاية من الدقة، والجودة، والإتقان.ومهما يكن من شيء، فانظر كيف تولت العناية الإلهية حراسة (الجامع الصحيح) من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب الإسلامي، وعلى رأس كل قرنين أو ثلاثة يبعث الله إمامًا يعيد إلى النسخة بريقها، ويطهرها من شوائب التصحيف، وأخطاء الطباعة والنسخ.محطات فارقة قادها الفربري وتلاميذه الثلاثة، ثم التقطها عنهم أبو ذر الهروي مطلع الرابع الهجري، فوحَّد أعمالهم، فطافت الدنيا شرقًا وغربًا بروايته الدقيقة، ثم التقطها مطلع القرن السابع المحقق اليونيني، فأعاد لها بريقها مجددًا، ثم كان إعادة تحقيقها من أواخر مشاريع الخلافة العثمانية، بقرار تاريخي من السلطان عبد الحميد مطلع القرن المنصرم وإلى اليوم.وقد أثبت التتبع الفهرسي للمخطوطات الذي أجراه الباحثون على رأسهم الباحث الألماني المسلم فؤاد سيزكين - رحمه الله - أن لصحيح الإمام البخاري ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة خطية متطابقة الأحاديث والمرويات، وتداوله النُقّاد وأئمة العلم لـ 1200 عامًا بنفس النص والتطابق، وباتت له مكتبة خاصة من الشروحات والتدقيقات والمطولات ما يربو على الآلاف، وأشارت مدونة (الفهرس الشامل) إلى وجود بعضا من مخطوطاته في 2327 موضعا من مكتبات العالم، ويذكر د. سيزكين في (تاريخ التراث العربي) أن المستشرق (منجانا) نشر في كمبردج عام 1936م أقدم نسخة خطية وقف عليها كتبت عام 370هـ برواية المروزي عن الفربري.مسيرة توثيقية عالية الأداء تؤكد أن عناية الله الفائقة تحرس هذا التدوين المتين الذي شهدت الدنيا بكفاءته، وجودته، واتصاله، وتَطَابُق نسخته الأولى مع الأخيرة في كل عصر؛ وتقدم نموذجًا مثاليًّا للتوثيق المحكم الذي لم يعرف التاريخ مثله لكلام نبي أوحى الله به إليه يشرح للأجيال أمر دينها الخالد.فهل يعي التائهون؟***

أدق حراسة علميّة في التاريخ (2)نشِط الثلاثة نهاية القرن الرابع في نشر الكتاب وإسماعه الأفواج القادمة بإسنادهم المباشر للفربري، كلٌ في مدينته، وفي ثنايا تلك الدفعات المغادرة بنسخ الروايات الثلاث في أرجاء المعمورة، تألق تلميذ نبيه لا يقل نباهة عن الفربري نفسه، اسمه أبو ذر عبد بن أحمد الهروي(ت:434)، ارتحل إلى مُدن الأساتيذ الثلاثة، وحصّل رواية كل واحد منهم عن الفربري، فسمعها تباعًا من الحُمويّيّ بهراة سنة(373)، ومن المستملي ببلخ سنة(374)، ومن الكُشميهني بكُشْمَيْهَن سنة(375)، تركزت مهمته العلمية في جمع الروايات الثلاث بدقة متناهية، وتدقيقها، وضبط أحرفها، ومقارنة وجوه كلماتها، ورصد أبرز اختلافات الثلاثة بترميز كاشف، فغدت روايته أم الروايات، وقامت عليها رواية الصحيح في الدنيا، وملأت أرجاء العالم الإسلامي شهرةً وجودةً ودقةً، وتنافس عليها جيل جديد من التلاميذ، واقتصر ابن جحر العسقلاني(ت:852) -صاحب أكبر الشروحات الموسوعية على نص البخاري- على ألفاظها في شرحه، وتداعى إليها أهل المشرق والمغرب، فحُملت من وسط آسيا إلى أقاصي بلاد الأندلس في غرب أوروبا بواسطة أبي الوليد الباجي(ت:474)، تلميذ أبي ذر الهروي الشهير، وورثت الأمة الإسلامية من هذه النسخة نسخًا عتيقة، موثّقة بأعلى درجات الموثوقية التي امتاز بها المسلمون، على أن هناك نسخًا أخرى منفردة طار بها الطلاب في الأصقاع عن كل شيخ من الثلاثة، فولدت لها فروع كثيرة، ونسخ مختلفة.اهتبل العلماء هذه النسخة النفيسة بما توافر لها من الخصائص والمميزات، كإسنادها العالي، ودقة ضبط نصوصها، وتمييز الخلافات بين رواتها الثلاثة، وتداولها الطلاب في أروقة الشرق والغرب العلمية، ونسخ منها التلاميذ نُسخًا مطابقة، كنسخة تلميذ الهروي المباشر أبي عبد الله بن منظور (ت:469) القادم من وسط إشبيلية، ونسخة أبي علي الصدفي(ت:514) التي رواها عن أبي الوليد الباجي تلميذ الهروي أيضًا. ونسخة شيخ الأندلس محمد بن سعادة(ت:565)، المأخوذة عن نسخة أبي علي الصدفي، وهي النسخة التي فاخر بها أهل الأندلس وجيرانهم في المغرب العربي، فهي مكتوبة بخط أبي ذر الهروي شيخ الباجي، فاحتفى بها ابن سعادة، وقابلها وصححها، وقرأها على أستاذه الصدفي، فصارت النسخة السعادية في أعلى درجات الصحة، والجودة، والتوثيق.كان (الجامع الصحيح) في منتصف القرن السابع على موعد تجديدي جديد، ينفض عنه أتربة النقص والتصحيف، ويصحح سقطات أعمال النقل وأخطاء النُّساخ، وفروق الروايات، ويعيد له رونقه الأوَّل، فانبرى العلامة شرف الدين اليونيني(ت:701) بصحبة إمام اللغة الكبير محمد بن مالك الجياني(ت:672)، نزيل دمشق، وصاحب الألفية، فقام بجمع النُسخ ومقابلتها، وتدقيقها، وقرأها اليونيني على ابن مالك الذي دقق في إعرابها، وبيَّن تعدد وجوه إعراب بعض مواضعها، مصدرًا لها بلفظ (معًا)، وعرضها اليونيني على كبار علماء الدرس الحديثي، وعُقدت ندوات علمائية مكثّفة لضبط هذه النسخة وتصفيتها من دغل التداول والنقل وأخطاء النُساخ، فعاد لها بريقها الأول، وشادت الأوساط العلمية في القرن السابع والثامن بالأداء اليونيني الفريد في تنقيح نسخة الجامع الصحيح، واعتمدها العلماء في الشرح والتدريس.كانت معتمدات الأصول التي طابقها اليونيني أربعة أصول: أصل مسموع على أبي محمد الأصيلي (ت:392)، وأصل مسموع على أبي ذر الهروي (ت:434)، وأصل مسموع على مؤرخ الشام ابن عساكر(ت:571)، وأصل أبي سعد السمعاني (ت:562) المسموع على أبي الوقت (ت:512)؛ فقابلها بمدرسة (آقبُغَا آص) بسويقة العِزِّي بمدينة القاهرة.قرأ اليونيني نسخته تسع مرات على كبار مختصي الدرس الحديثي، حتى غدت في غاية الدقة والإتقان، فجعلها العلامة القسطلاني(ت:923) في مطلع القرن العاشر عمدته في تحقيق متن الكتاب وضبطه حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة، ضبطًا لغويًّا كتابيًّا يدركه من يدقق في المجهود العملاق الذي قاده القسطلاني في «إرشاد الساري» لحفظ ضبطية ألفاظ الكتاب.

Bazz Logo Download

استكشف محتوى ممتع ومشوق

انضم لأكبر تجمع للمجتمعات العربية على الإنترنت واستكشف محتوى يناسب اهتماماتك

تم نسخ الرابط بنجاح تم نسخ الرابط بنجاح
لقد تم ارسال الرمز بنجاح لقد تم ارسال الرمز بنجاح