close

لعبة البيتبقلم: د. يوسف إدريسشبَّ سامح على أطراف أصابعه ونطَّ ودقَّ الجرس، وسمع صوتًا طويلًا ممدودًا يقول: مين؟ فاحتار وخاف وسكت.وفتح الباب، ووقفت على عتبته سيدة ضخمة مهيبة، ترتدي قميص نوم خفيفًا جدًّا، لونه أصفر باهت كقشر الليمون. ووجم سامح وكاد يجري، ولكنه تماسَك، وعرف أن التي فتحت هي أم فاتن، رغم وجهها الخالي من المساحيق.وقبل أن يحدث أي شيء، ابتسمت له السيدة ابتسامة كبيرة وانحنَت ناحيته، وقالت: يُوه … هو انت يا حبيبي؟! … أنا رخرة قلت مين اللي بيضرب الجرس ده ومالوش خيال … عايز إيه يا حبيبي؟ عايز الهون؟ … ماما بتعمل كفتة؟ولم يجب سامح في الحال … مدَّ بصره من خلال وقفة الأم العريضة وقميصها الشفاف، وما بقي من الباب في فراغ، محاولًا أن يرى فاتن … ولكنه لم يجد لها أثرًا؛ لا في الصالة، ولا في الحجرة القريبة المواربة للباب، ولا بجوار الراديو تعبث بمفاتيحه.وقال بجرأة منقطعة: عايز … عايز فاتن تلعب معايا.وضحكت الأم، وانحنت وقبَّلته وقالت: كده؟ طيب حاضر يا حبيبي.وانبسط سامح، وانبسط أكثر حين التفتَت إلى الخلف، ونادت: فاتن. سيبي الغسيل أحسن تِبلِّي هدومك … وتعالي … تعالي علشان تِلعبي مع ابن أم سامح.ثم التفتت إلى سامح قائلة: بس اوعَ تزعلها يا حبيبي … لحسن مخليهاش تلعب معاك بعد كده أبدًا.وقال سامح بحماس وعيون صغيرة ذكية تبرق: إن زعلتها يا تانت، ما تخلِّيهاش تلعب معايا تاني.فقالت أم فاتن وهي تتركه وتستدير: وما تنساش تسلِّم لي على مامتك، وتقول لها ما بتزُرناش ليه؟ثم دخلت السيدة إلى الحمام، وهي تهتزُّ وتتدحرج.ووقف سامح يترقب ظهور فاتن ويتأمل الصالة، كان فيها ترابيزة سفرة مثل صالتهم، غير أن كراسيها قديمة موضوعة فوق الترابيزة. وكان هناك كرسي غريب الشكل مسنده عالٍ جدًّا، يحتاج إلى سلم للصعود عليه، والكرسي ترقد فوقه قطة ذات ألوان جميلة، ملفوفة على نفسها ونعسانة. وظهرت فاتن فجأة، وكأنما خرجت من تحت الأرض، ترتدي فستانها الأبيض القصير الذي يرتفع ذيله عن الركبة، وتوجهت إلى التسريحة الموضوعة في الصالة، وانحشرت بينها وبين الحائط، ثم أخرجت سبتًا صغيرًا مثل الأسْبتة التي يُباع فيها حَب العزيز، غير أنه مصنوع من البوص، وعلقت السبَت في يدها، واتجهت إلى الباب حيث يقف سامح، وابتسم لها سامح وسار في اتجاه السلم، وتبِعَته فاتن.وفي منتصف السلم قال لها فجأة: إن كنت جدَعة امسكيني قبل ما اوْصَل باب شقتنا.وجرى أمامها فوق الدرجات، ولكنه حين لم يسمعها تجري خلفه توقَّف، وقال: إخِّيه عليكي … مش قادرة تجري ورايا يا خايبة؟فقالت وفي ملامحها ثبات وتأفُّف ورزانة: أنا محبِّش الجري ده.وتضايق سامح قليلًا من تأفُّفها، ووقف ينتظرها وهو معلَّق بدرابزين السلم، ونصفه خارج عنه.ودخلا الشقة من بابها المفتوح، وتأكَّد سامح أن أمه مشغولة في المطبخ؛ إذ كانت لا ترحب أبدًا بإحضاره فاتن ليلعب معها … وعبر سامح الصالة وفاتن وراءه، وعيناها لا تغادران السَّبت المعلق في يدها.وأصبحا في الحجرة الداخلية ذات السرير الحديدي القديم والدولاب والكنبة.وقال سامح وهو يهلِّل ويشير إلى ما تحت السرير: أهو ده بيتنا … أهو ده بيتنا … يلَّا بقى نعمل بيت.ورفع داير السرير الأبيض الذي يحيط به من كل الجهات، ودخل تحت السرير، ودخلت فاتن وراءه … وبينما بقيَتْ هي على رَزَانتها، بدأ سامح يصنع زيطة كبيرة، ويصرخ ويدور ويهلِّل، ثم أخذها إلى ركن السرير الداخلي؛ حيث صندوق الشاي القديم الذي يحتوي على كل ممتلكاته وألعابه الخاصة … مجموعة كبيرة من عُلب السجائر الفارغة، وأغطية الكازوزة، وأرجل كراسي مصنوعة بالمخرطة، وعلب تونة وسالمون بمفاتيحها، وقطع صغيرة كثيرة من أقمشة جديدة متعددة الألوان سرقها من درج ماكينة الخياطة. وجرَّ الصندوق وأخذ يستخرج محتوياته ويفرج فاتن عليها … وبدأت الرزانة تغادر فاتن، فجلست على الأرض وتربَّعت، وأخذت تُخرج من «سبتها» لُعبها هي الأخرى وممتلكاتها وتفرِّجه عليها.وفي هذه المرة أيضًا أُعجب سامح بالحلة الألومنيوم الصغيرة، والوابور البريموس الصغير، وترابيزة المطبخ التي في حجم علبة الكبريت. واستكثر على فاتن أن تكون هي مالكة هذه اللعب الجميلة كلها … ثم انتابته الخفَّة والحماسة، فقام وأخذ ثلاثة ألواح خشبية

close
منتدى القصة القصيرة
المشرف Mustafa NASR  • 

لا توجد تعليقات حتى الآن!

كن أول من يعلق على هذا المنشور

تم نسخ الرابط بنجاح تم نسخ الرابط بنجاح
لقد تم ارسال الرمز بنجاح لقد تم ارسال الرمز بنجاح