close

أدق حراسة علميّة في التاريخ (2)نشِط الثلاثة نهاية القرن الرابع في نشر الكتاب وإسماعه الأفواج القادمة بإسنادهم المباشر للفربري، كلٌ في مدينته، وفي ثنايا تلك الدفعات المغادرة بنسخ الروايات الثلاث في أرجاء المعمورة، تألق تلميذ نبيه لا يقل نباهة عن الفربري نفسه، اسمه أبو ذر عبد بن أحمد الهروي(ت:434)، ارتحل إلى مُدن الأساتيذ الثلاثة، وحصّل رواية كل واحد منهم عن الفربري، فسمعها تباعًا من الحُمويّيّ بهراة سنة(373)، ومن المستملي ببلخ سنة(374)، ومن الكُشميهني بكُشْمَيْهَن سنة(375)، تركزت مهمته العلمية في جمع الروايات الثلاث بدقة متناهية، وتدقيقها، وضبط أحرفها، ومقارنة وجوه كلماتها، ورصد أبرز اختلافات الثلاثة بترميز كاشف، فغدت روايته أم الروايات، وقامت عليها رواية الصحيح في الدنيا، وملأت أرجاء العالم الإسلامي شهرةً وجودةً ودقةً، وتنافس عليها جيل جديد من التلاميذ، واقتصر ابن جحر العسقلاني(ت:852) -صاحب أكبر الشروحات الموسوعية على نص البخاري- على ألفاظها في شرحه، وتداعى إليها أهل المشرق والمغرب، فحُملت من وسط آسيا إلى أقاصي بلاد الأندلس في غرب أوروبا بواسطة أبي الوليد الباجي(ت:474)، تلميذ أبي ذر الهروي الشهير، وورثت الأمة الإسلامية من هذه النسخة نسخًا عتيقة، موثّقة بأعلى درجات الموثوقية التي امتاز بها المسلمون، على أن هناك نسخًا أخرى منفردة طار بها الطلاب في الأصقاع عن كل شيخ من الثلاثة، فولدت لها فروع كثيرة، ونسخ مختلفة.اهتبل العلماء هذه النسخة النفيسة بما توافر لها من الخصائص والمميزات، كإسنادها العالي، ودقة ضبط نصوصها، وتمييز الخلافات بين رواتها الثلاثة، وتداولها الطلاب في أروقة الشرق والغرب العلمية، ونسخ منها التلاميذ نُسخًا مطابقة، كنسخة تلميذ الهروي المباشر أبي عبد الله بن منظور (ت:469) القادم من وسط إشبيلية، ونسخة أبي علي الصدفي(ت:514) التي رواها عن أبي الوليد الباجي تلميذ الهروي أيضًا. ونسخة شيخ الأندلس محمد بن سعادة(ت:565)، المأخوذة عن نسخة أبي علي الصدفي، وهي النسخة التي فاخر بها أهل الأندلس وجيرانهم في المغرب العربي، فهي مكتوبة بخط أبي ذر الهروي شيخ الباجي، فاحتفى بها ابن سعادة، وقابلها وصححها، وقرأها على أستاذه الصدفي، فصارت النسخة السعادية في أعلى درجات الصحة، والجودة، والتوثيق.كان (الجامع الصحيح) في منتصف القرن السابع على موعد تجديدي جديد، ينفض عنه أتربة النقص والتصحيف، ويصحح سقطات أعمال النقل وأخطاء النُّساخ، وفروق الروايات، ويعيد له رونقه الأوَّل، فانبرى العلامة شرف الدين اليونيني(ت:701) بصحبة إمام اللغة الكبير محمد بن مالك الجياني(ت:672)، نزيل دمشق، وصاحب الألفية، فقام بجمع النُسخ ومقابلتها، وتدقيقها، وقرأها اليونيني على ابن مالك الذي دقق في إعرابها، وبيَّن تعدد وجوه إعراب بعض مواضعها، مصدرًا لها بلفظ (معًا)، وعرضها اليونيني على كبار علماء الدرس الحديثي، وعُقدت ندوات علمائية مكثّفة لضبط هذه النسخة وتصفيتها من دغل التداول والنقل وأخطاء النُساخ، فعاد لها بريقها الأول، وشادت الأوساط العلمية في القرن السابع والثامن بالأداء اليونيني الفريد في تنقيح نسخة الجامع الصحيح، واعتمدها العلماء في الشرح والتدريس.كانت معتمدات الأصول التي طابقها اليونيني أربعة أصول: أصل مسموع على أبي محمد الأصيلي (ت:392)، وأصل مسموع على أبي ذر الهروي (ت:434)، وأصل مسموع على مؤرخ الشام ابن عساكر(ت:571)، وأصل أبي سعد السمعاني (ت:562) المسموع على أبي الوقت (ت:512)؛ فقابلها بمدرسة (آقبُغَا آص) بسويقة العِزِّي بمدينة القاهرة.قرأ اليونيني نسخته تسع مرات على كبار مختصي الدرس الحديثي، حتى غدت في غاية الدقة والإتقان، فجعلها العلامة القسطلاني(ت:923) في مطلع القرن العاشر عمدته في تحقيق متن الكتاب وضبطه حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة، ضبطًا لغويًّا كتابيًّا يدركه من يدقق في المجهود العملاق الذي قاده القسطلاني في «إرشاد الساري» لحفظ ضبطية ألفاظ الكتاب.

close
أحمد الجارحي
منذ 22 يوم

Invite your friends and get bonuses for each invited friend! 🎁 Your referral link: https://t.me/avagoldcoin_bot?start=0da4ff1ea21f35ca3b94

تم نسخ الرابط بنجاح تم نسخ الرابط بنجاح
لقد تم ارسال الرمز بنجاح لقد تم ارسال الرمز بنجاح