close

أدق حراسة علميّة في التاريخ (3)هذه الصنعة الحضارية الإسلامية علّمت الدنيا طرق تحقيق المخطوطات، وفحصها، ونخل خطلها. ويؤكد الدكتور شوقي ضيف أن المتقدمين كانوا يعرفون جيدا القواعد العلمية في إخراج الكتب، من حيث رموز المخطوطات، واختيار أوثق النسخ لاستخلاص أدق صورها النهائية للنص كما صنع اليونيني في القرن السابع بصحيح البخاري.دوَّن اليونيني كل رموز الضبط وإشارات النُسَخ، وحل الألفاظ اللغوية، وكشف عن وجوه الاستعمال، وأسند الأعمال اللغوية إلى رائد الدرس النحوي محمد بن مالك الجياني، واستدعى ما رصده القاضي عياض (ت:544) في مدونته المعجمية البديعة «مشارق الأنوار»، وغير ذلك من تقنيات الضبط والتصحيح.اهتبل العلماء النسخة اليونينية في مطلع القرن الثامن، وقاموا بنسخها نسخًا نفيسة طبق الأصل انتشرت في أرجاء العالم الإسلامي، ومنها صدرت طبعات البخاري.ذكر العلامة القسطلاني في القرن العاشر أن النسخة الأصلية صارت وقفًا على خزانة مدرسة (آقبغا آص) في القاهرة، إلا أن مصيرها لم يعرف إلى الآن، وبقيت فروعها المطابقة تغذي الدرس الحديثي بجودتها وإتقانها، كفرع العلامة النويري (ت:733)، ونسخة الغزولي(ت:777)، ونسخة ابن السراج (ت:782)، ونسخة البصري (ت:1134).ولم يتمكن المعاصرون -بحسب المحدث أحمد شاكر- من تحديد مكان وجود النسخة اليونينية الأصلية التي ضبطها اليونيني نفسه، إلا أن شيخ الجامع الأزهر حسونة النواوي(ت:1343) اعترف أن النسخة السلطانية استندت عليها.مطلع القرن الرابع عشر أصدر السلطان عبد الحميد-تحديدًا عام 1311هـ- مرسومه السلطاني بطباعة (الجامع الصحيح) اعتمادًا على النسخة اليونينية البديعة، فتولت مشيخة الجامع الأزهر الأعمال التنفيذية للمرسوم السلطاني، وتولى الشيخ حسونة النواوي(ت:1343) رئاسة اللجنة، وأعد تقريرًا سنة 1313هـ أشار فيه إلى أن لجان التدقيق اعتمدت النسخة اليونينية الأصلية، وأنها محفوظة في الخزانة الملوكية بالآستانة العلية بإسطنبول، وتفاصيل أخرى.صدرت الطبعة السلطانية الفاخرة، فاستمد منها العالم الإسلامي أغلب طبعات الكتاب إلى يومنا، وكانت في غاية من الدقة، والجودة، والإتقان.ومهما يكن من شيء، فانظر كيف تولت العناية الإلهية حراسة (الجامع الصحيح) من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب الإسلامي، وعلى رأس كل قرنين أو ثلاثة يبعث الله إمامًا يعيد إلى النسخة بريقها، ويطهرها من شوائب التصحيف، وأخطاء الطباعة والنسخ.محطات فارقة قادها الفربري وتلاميذه الثلاثة، ثم التقطها عنهم أبو ذر الهروي مطلع الرابع الهجري، فوحَّد أعمالهم، فطافت الدنيا شرقًا وغربًا بروايته الدقيقة، ثم التقطها مطلع القرن السابع المحقق اليونيني، فأعاد لها بريقها مجددًا، ثم كان إعادة تحقيقها من أواخر مشاريع الخلافة العثمانية، بقرار تاريخي من السلطان عبد الحميد مطلع القرن المنصرم وإلى اليوم.وقد أثبت التتبع الفهرسي للمخطوطات الذي أجراه الباحثون على رأسهم الباحث الألماني المسلم فؤاد سيزكين - رحمه الله - أن لصحيح الإمام البخاري ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة خطية متطابقة الأحاديث والمرويات، وتداوله النُقّاد وأئمة العلم لـ 1200 عامًا بنفس النص والتطابق، وباتت له مكتبة خاصة من الشروحات والتدقيقات والمطولات ما يربو على الآلاف، وأشارت مدونة (الفهرس الشامل) إلى وجود بعضا من مخطوطاته في 2327 موضعا من مكتبات العالم، ويذكر د. سيزكين في (تاريخ التراث العربي) أن المستشرق (منجانا) نشر في كمبردج عام 1936م أقدم نسخة خطية وقف عليها كتبت عام 370هـ برواية المروزي عن الفربري.مسيرة توثيقية عالية الأداء تؤكد أن عناية الله الفائقة تحرس هذا التدوين المتين الذي شهدت الدنيا بكفاءته، وجودته، واتصاله، وتَطَابُق نسخته الأولى مع الأخيرة في كل عصر؛ وتقدم نموذجًا مثاليًّا للتوثيق المحكم الذي لم يعرف التاريخ مثله لكلام نبي أوحى الله به إليه يشرح للأجيال أمر دينها الخالد.فهل يعي التائهون؟***

close
أحمد الجارحي
منذ 24 يوم

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين

تم نسخ الرابط بنجاح تم نسخ الرابط بنجاح
لقد تم ارسال الرمز بنجاح لقد تم ارسال الرمز بنجاح